الموسيقى.. كلمة سحرت
ألباب الناس منذ أقدم العصور، في كل مرة نستمع فيها إلى أغنية جميلة، يبدو
أن شيئاً غريباً جداً يحدث داخلنا، تغلب على عقولنا حالة غير مألوفة لا
نستطيع تفسيرها، فننتقل من حالة الإحباط أحياناً، إلى حالة المزاج الجيد،
والإنتاجية الأفضل، ومن حالة الكسل إلى النشاط، ومن الكآبة إلى الفرح، إلى
ما هنالك من التأثيرات، وربما لا يمر يوم واحد إلا ونستمع فيه إلى عدد لا
بأس به من المقطوعات الموسيقية، أو الأغاني، أو الألحان.
قد تظن أن هذا التأثير الجيد للموسيقى
يدوم فقط بدوام سماعك لها، وما إن تتوقف حتى تعود إلى ما كنت عليه، لكن
الدراسات أظهرت عكس ذلك، فللموسيقى تأثيرها الجيد الذي يدوم، وبالأخص عند
من يقوم بعزفها لا سماعها فقط.
تتعدى آثار الموسيقى الإحساس الجيد، فهي
تحدث في أدمغتنا آثاراً قد نجهلها أو لا نلاحظها لكنها موجودة بالفعل، وقد
يبدو غريباً أن الموسيقى تغير الكثير فينا، لكن هذا ما بينه الواقع
التجريبي، ولربما كان هذا الأثر سبب قول البعض أن الموسيقى نمط حياة، لا
مجرد هواية تقوم بها، ولأوضح لك أكثر، سأسألك السؤال التالي:
هل
تعلم أنه في كل مرة يقوم فيها الموسيقيون بالعزف فإن ما يشبه الألعاب
النارية يشتعل في أدمغتهم؟ قد يبدو مظهرهم هادئاً ومتزناً وهم يقرؤون
العلامات الموسيقية، لكن ما يشبه الحفلة يحدث داخلهم!
كيف عرفنا ذلك؟
حسناً، في العقود الأخيرة الماضية، قام
علماء الأعصاب بالكشف عن النشاط الذي يحدث في الدماغ لمعرفة كيفية عمله،
وتم ذلك باستخدام أجهزة كمثل fMRI (Functional Magnetic Resonance
Imagingd)، أو Position Emission Tomography) PET)، وعندما وُضع الناس داخل
هذه الآلات، ظهر أن المهام مثل القراءة، أو القيام بالحسابات، لديها منطقة
مقابلة في الدماغ، حيث شاهدوا نشاطه حين القيام بها، ولم يكن نشاطاً غير
اعتيادي، لكن عند سماع الموسيقى ظهر ما يشبه الألعاب النارية، أي ظهر نشاط
دماغي كبير وغير معتاد!
مناطق عديدة من الدماغ تحفزت في الوقت
نفسه لمعالجة الأنغام والإيقاعات التي تتلقاها، وبعد ذلك قامت بتجميعها
لتصبح إحساساً واحداً، كل ذلك يتم في جزء من الثانية التي نبدأ فيها
بالاستماع للأنغام.
لكن عندما أجرى العلماء تجربتهم على عازفي
الموسيقى، ظهر أن قيامهم بالعزف ينشط الدماغ بالشكل الذي يتنشط فيه الجسد
بعد القيام بتمرين رياضي كامل، فقد أظهر البحث أن القيام بالعزف جعل
أقساماً عديدة من الدماغ تعمل بطريقة معقدة وهي تعالج المعلومات بتسلسل
سريع ومدهش!
اشتركت الأقسام البصرية، السماعية،
والحركية بشكل خاص في ذلك النشاط الكبير، وكما هو حال التمارين الرياضية في
تقوية الأجساد، ظهر أن القيام بتأليف الموسيقى وعزفها يطور القدرات
العقلية، أي أن ذلك النشاط جعل وظائف الدماغ الأخرى تتحسن، فمثلاً تطورت
المهارات الحركية، كما حدث نوع من التكامل بين فصي الدماغ.
وبذلك تدمج الوظائف اللغوية الحسابية في
فص الدماغ الايسر، مع القدرات التخيلية والإبداعية في الفص الأيمن، وذلك
لأن القيام بالعزف زاد من حجم وفعالية الجسم الثفني (Corpus Callosum)، وهو
جسر يصل بين فصي الدماغ، جاعلاً انتقال الإشارات العصبية بين الفصين أكثر
فعالية وسرعة.
وقد يساعد هذا النشاط الدماغي على حل أفضل
وأكثر إبداعية للمشاكل لدى الموسيقيين في الإطارات العلمية والاجتماعية،
لأن العزف يتطلب قدرة على فهم المشاعر، وصياغة ما يلائمها.
يتمتع الموسيقيون غالباً بقدرات أكبر من
غيرهم على الإدارة، لوجود ارتباط بين قدرات التخطيط، بناء الاستراتيجيات،
والانتباه للتفاصيل لديهم.
كما تبين أن ذاكرتهم تتمتع بتنظيم أفضل،
وقدرة أكبر على استخراج المعلومات بفعالية، فهم يعطون الذكريات طوابع
مختلفة، كالطابع الشاعري، الصوتي، أو الطابع المقترن، كأنهم محرك بحث في
الانترنت.
ربما تستغرب كل هذه الفوائد للموسيقى
وتتساءل: أليس من الممكن أن تعطي الرياضة أو الرسم الأثر الجيد نفسه؟ أم هل
كان الناس الذين بدؤوا بعزف الموسيقى أذكياء بالفطرة؟
لقد خطر هذا السؤال للباحثين في الأمر،
وقاموا بإجراء تجارب على عدد من الناس ذوي القدرات المعرفية، والمعالجة
العصبية المتماثلة، فوجدوا أن من قام بتعلم العزف على آلة موسيقية، أظهر
أثراً مختلفاً عمن سواه في مناطق الدماغ المختلفة.
بعد هذه النتائج الرائعة للموسيقى، يبدو أنه على كل واحد منا أن يقتني آلته التي يعزف عليها كلما سنحت له الفرصة 

والآن، هل اقتنعت بفائدة الموسيقى، وآثارها على دماغك؟ أم لا زلت تراها مجرد متعة مؤقتة لا يمكن أن تؤدي لمثل ذلك؟
شاركونا بآرائكم، فهي تهمنا…
No comments:
Post a Comment